تونس واشتعال الوعي
د. عبد المجيد سويلم
هل كنا ندرك حقاً ان اشتعال جسد بوعزيزي سيشعل الوعي في السهل التونسي كله؟
لا لم نكن ندرك. لقد سرقتنا الاحداث والاعتبارات وعالم العلاقات من لحظة الوعي الحقيقية الى لحظات طالت من الوعي المغيّب.
رُوِّضنا الى درجة محزنة. أصبح "الضروري" والمفيد والمريح والمكبِّل والمكبَّل هو مصدرنا للمعرفة ومنبعنا الذي لا يصب في أي مكان.
نسينا أزمة الدولة العربية المحدثة والحديثة والمستحدثة على عجل شديد، ونسينا أزمة الاستقلال المزيف الذي أعاد انتاج منظومة متكاملة لتبعية مطلقة واحتجاز مستديم لقيم الحرية.
نسينا أن هذه الدولة قد فشلت فشلاً ذريعاً في مشروع النهضة وفي مشروع التحديث تماماً كما كانت قد فشلت فشلاً أكبر في مشروع التحرر والتحرير. ولهذا كان طبيعياً أن تفشل فشلاً مخجلاً في مشروعي العدالة والديمقراطية.
نعم نسينا وكان يجدر بنا أن نتذكر ونستذكر ما قاله محمود درويش (تذكرتُ أني نسيتكِ). يا تونس.
نعم لقد فشلت الدولة العربية (سليلة اتفاقية ساي(**) – بيكو) ووليدة الانقلابات العسكرية وهجينة عصر التبعية ووريثة عصور الاستبداد والتسلط، ونسينا نحن إنصاف المواطنين والمواطنات على امتداد مساحة هذا الوطن الكبير في كل شيء والصغير في قيم الانسانية والحضارة والتمدن والحداثة.
نعم لقد نسينا كيف كان الفشل فادحاً ومدمراً حين حولت شعوبنا الى قطيع، وحين حطمت آمالهم في التحول الى مواطنين فاعلين في مشروع النهضة وبناء المستقبل.
استسلمت الدولة العربية منذ زمن بعيد أمام الفساد المنظم وأمام ثقافة الزيف (المتفق عليه وطنياً) وشرّعت سرقة قوت الناس واكتفت بالرقابة الحية على عمليات السطو المنظم على الأمة ومقدراتها، وتماهت الدولة نفسها مع المحسوبية والرشوة وشراء الذمم وتخليف الزمر الطفيلية.
تغوّلت الدولة العربية في قائمة الممنوع والمحرّم والمحظور وحكمت بالمؤبد والأشغال الشاقة على كل ما يتعلق بالكرامة الوطنية وعلى كل ما يتعلق بقيم العدالة والحرية حتى بلقمة عيش المواطن.
نسينا فقراء تونس ونسينا الناس في تونس الذين علموا أجيالاً كاملة في مغرب الوطن ومشرقه على حد سواء كيف يكون العمل النقابي رديفاً للوعي والثقافة الوطنية المجبولة بالمسؤولية والدفاع عن حقوق الفقراء وقوتهم.
في لحظة طالت كثيراً وتمددت الى حدود الإدمان أغفلنا مئات آلاف وملايين الشباب، العاطلين عن العمل الذين حولتهم ثورة الاتصالات الى طاقة للوعي والمعرفة والقدرة على التنظيم، ونسينا أن الدولة العربية رمت بهم على قارعة الطريق وحولتهم الى مطرودين ومطاردين من أجهزتها القمعية بتهمة "احتمال الوعي واحتمال الياسمين" (كما قال – ويا للمفارقة – محمود درويش أيضاً).
نسينا أو ربما تناسينا أن المجتمع المدني في مشرق الوطن ومغربه، طال الزمن أم قصر يملك من وسائل الدفاع عن نفسه أقل بكثير مما تملك السلطة العربية ولكنه يملك من وسائل الهجوم عليها ما هو أكبر من قدرتها مهما توحشنت واستبدت ومهما تحصنت في قلاع التوريث وتأبيد الحاكمين.
وها نحن نفيق من غيبوبتنا على وقع شعب يستعيد روحه بسرعة الضوء بالقياس الى زمن الاستكانة والهوان.
نفيق على عالم جديد يحفر في عمق الأرض العربية أول نبتة أصيلة بعد النبتة الناصرية ويغرس أول بيارق التغيير وربما الى آخر مدايات هذا التغيير، في سابقة هي النموذج لا محالة وهي مفتاح للأمل.
نستفيق على وعي جديد تنقلب فيه المفاهيم وتتنحى بموجبها ثقافة الوجبات الإعلامية السريعة للتمعن في هذه الطاقة الهائلة التي تُستبدَل فيها روح الحرية بحرية الروح.
تشتعل أجساد الفقراء أمام مؤسسات فبركة القرار لتعلن للدولة العربية – النائمة على ريش النعام - أن ساعة الحقيقة حينما تدق وتأتي تكون الإنذارات قد تأخرت وتكون التدابير والاجراءات قد فات أوانها.
نستفيق – أو هكذا نتخيل – على صدى احتراق الأجساد من أجل (**)رة خ(*) عزّت على الدولة العربية الى درجة امتهان الحياة.
تتكدس المليارات في بنوك العجم في حسابات مصرفية غامضة تغذيها مؤسسات الفساد العربي بقدر ما تتراكم وتتزاحم بيوت الصفيح وأحزمة الفقر وعشوائيات العواصم العربية.
نستفيق أو لا نستفيق أبداً من هجمة الطائفية وحملة المذهبية التي حولت جسد الأمة الى رُقع مفتّقة من النسيج الواهن ونفهم أو لا نفهم أبداً أن بناء المجتمع القائم على المواطنة هو وحده الذي يحمي الأوطان وهو وحده الذي يحمي الأوطان وهو وحده الذي يقوى على مواجهة التفتيت والشرذمة.
تونس التي حماها مجتمعها المدني وجيشها الوطني ومواطنها المواطن لم تن(**)ر أبداً ولم تهزم أبداً ولكنها لم تنتصر بعد بما يليق بمساحة الأمل وعظمة المهمة والنموذج ونُبل الأهداف.
أما نحن من أنصاف المواطنين والمواطنات على امتداد مساحة هذا الوطن الكبير في طوابير الانتظار والقابعين على مقاعد المتفرجين فإننا سندفع الثمن مرتين:
مرة لأننا لم نفهم عمق هذه التحولات وأبعاد هذا التحرك والحراك، ومرة لأننا أدمنّا ثقافة التفرّج وتحول الانتظار الى نوع من العمل اليومي المعتاد.
واذا كانت الانتفاضة الوطنية الكبرى في العام 1987 هي الهدية التي قدمها الشعب الفلسطيني لأشقائه في امتداد جسد الأمة وإلى كل شعوب الأرض التواقة الى الحرية والانعتاق فإن الهدية التي يقدمها الشعب التونسي الى أمته الكبيرة اليوم هي أن الحل هو في الشعب وفي الناس العاديين الذين لهم المصلحة الحقيقية في (**)ر القيود وبناء الدولة الحقيقية؛ دولة المواطنة والعدالة والديمقراطية.